الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال آخرون: بل كان قد بقي في بني إسرائيل من ثبت على إيمانه لقوله سبحانه: {من قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} [الأعراف: 181] وهل انقلب ذلك التمثال لحمًا ودمًا أو بقي ذهبًا كما كان مال بعضهم إلى الأوّل لأنه تعالى قال: {عجلًا جسدًا له خوار} والجسد اسم للجسم ذي اللحم والدّم والخوار إنما يكون للبقرة لا للصورة. واستبعده بعضهم وناقش في أن الجسد مختص بذي الروح. ثم قال: إن ذلك الصوت لما أشبه الخوار لما يبعد إطلاق لفظ الخوار عليه. وقرأ على كرم الله وجهه {جؤار} بالجيم والهمزة من جأر إذا صاح و{جسدًا} بدلًا من {عجلًا} ثم إنه سبحانه احتج على فساد كون ذلك العجل إلهًا بقوله: {ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلًا} ومن حق الإله أن يكون متكلمًا هاديًا إلى سبيل الحق ومناهجه بما ركز في العقول من الأدلة وبما أنزل من الكتب. قالت المعتزلة: هاهنا سؤال فمن كان مضلًا عن الدين لا يصلح أن يكون إلهًا. قالت الأشاعرة: لو صح أن الإله يلزم أن يكون متكلمًا هاديًا لزم أن يكون كل متكلم هادٍ إلهًا. والحق أن الملازمة ممنوعة فإن الدعوى ليست إلا أن كل إله يجب أن يكون متكلمًا هاديًا والموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها على أنه يمكن أن يقال لا متكلم ولا هادي في الحقيقة إلا الله تعالى. ثم ختم الآية بقوله: {اتخذوه وكانوا ظالمين} وهذا كما قال في البقرة {ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون} [البقرة: 51] ثم أخبر عن عقبى حالهم بقوله: {ولما سقط في أيديهم} معناه ولما اشتد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل. واختلفوا في وجه هذه الاستعارة فقال الزجاج: أريد بالأيدي القلوب والأنفس كما يقال حصل في يده مكروه وإن كان من المحال حصول المكروه في اليد تشبيهًا لما يحصل في القلب وفي النفس بما يحصل في اليد ويرى بالعين. وقال في الكشاف: إن من شأن من اشتد ندمه أن يعض يده فتصير يده مسقوطًا فيها لأن فاه وقع فيها، فأصل الكلام سقط فوه في يده فحذف الفاعل وبني الفعل للمفعول فيه كما يحذف الفعل ويبنى للمفعول فيه في قولهم مُرَّ بزيد وهذا من باب الكناية لأن عض اليد من لوازم الحسرة والندم. وقيل: كل عمل يقدم المرء عليه فذلك لاعتقاد أن ذلك العمل خير وصواب وأنه يورثه رفعة ورتبة، فإذا بان أن ذلك العمل باطل فكأنه انحط وسقط من علو إلى أسفل ومنه قولهم للرجل إذا أخطأ ذلك منه سقطة ثم إن اليد آلة البطش والأخذ والنادم كأنه تدارك الحالة التي لأجلها حصل له الندم وكأنه قد سقط في يد نفسه من حيث أنه بعد حصول ذلك الندم يشتغل بالتدارك والتلافي.وحكى الواحدي أنه من السقط وهو ما يغشى الأرض بالغدوات شبه الثلج فمن وقع في يده السقط لم يحصل منه على شيء قط لأنه يذوب بأدنى حرارة، فهذا مثل من خسر في عاقبته ولم يحصل على طائل من سعة. وقال بعضهم: الآله الأصلية في أكثر الأعمال اليد والعاجز في حكم الساقط فسقاط اليد هو العجز التام كما يقال في العرف ضل يده ورجله لمن لا يهتدي إلى صلاحه. وقيل: إن {في} بمعنى على أي سقط على أيديهم فإن من عادة النادم أن يطأطىء رأسه ويضعه على يده تحت ذقنه. ثم قال الله تعالى: {ورأوا أنهم قد ضلوا} أي قد تبينوا ضلالهم كأنهم أبصروه بعيونهم. قال القاضي: الكلام على التقديم والتأخير لأن الندم والتحسر بعد تعرف الحال وتبين الخطأ والترتيب الأصلي: ولما رأوا أنهم قد ضلوا سقط في أيديهم. ويمكن أن يقال: الواو لا تفيد الترتيب، أو يقال: الإقدام على ما لا يعلم كونه صوابًا أو خطأً فاسد موجب للندم وقد يتكامل العلم فيظهر أنه خطأ جزمًا. ثم إنهم اعترفوا بذنوبهم وانقطعوا إلى ربهم وذكروا مثل ما ذكر أبونا آدم وأمنا حواء {إن لم يرحمنا ربنا} الآية. {ولما رجع موسى إلى قومه} قال بعضهم إن موسى قد عرف خبر القوم بعد رجوعه إليهم. وقال الأكثرون وهو قول أبي مسلم: إنه كان عارفًا بذلك قبل رجوعه بدليل قوله: {غضبان أسفًا} فإنه يدل على أن هاتين الحالتين حاصلتان له عند رجوعه إليهم ولما جاء في سورة طه {قد فتنا قومك من بعدك} [الآية: 85] وفي دليل ظاهر على أنه تعالى أخبره بوقوع الواقعة في الميقات. والأسف الشديد الغضب وهو قول أبي الدرداء والزجاج. وعن ابن عباس والحسن إنه الحزين. وقال الواحدي: هما متقاربان فإذا جاءك ممن هو دونك غضبت وإذا جاءك ممن هو فوقك حزنت، فكأن موسى غضبان على قومه أسفًا من فتنة ربه {بئسما خلفتموني} خاطب عبدة العجل أو وجوه القوم- هارون والمؤمنين- حيث لم يكفوا العبدة. وفاعل {بئس} مضمر يفسره {ما خلفتموني} والمخصوص محذوف التقدير: بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم. ومعنى {من بعدي} مع قوله: {خلفتموني} من بعد ما رأيتم مني من توحيد الله ونفي الأنداد أو من بعد ما كنت أحمل القوم عليه من التوحيد والكف من اتخاذ إله غير الله حيث قالوا جعل لنا إلهًا ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة مستخلفيهم من بعدهم ولا يخالفوهم ونظير الآية قوله: {فخلف من بعدهم خلف} [مريم: 58] أي من بعد أولئك الموصوفين بالصفات الحميدة {أعجلتم أمر ربكم} قال الواحدي: العجلة التقدم بالشيء قبل وقته ولذلك صارت مذمومة في الأغلب بخلاف السرعة فإنها عمل الشيء في أوّل وقته.قال ابن عباس: يعني أعجلتم ميعاد ربكم فلم تصبروا له. وقال الحسن: أعجلتم وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين وذلك أنهم قدّروا أنه لما لم يأت على رأس الثلاثين ليلة فقد مات. وروي أن السامري قال لهم: إن موسى لن يرجع وإنه قد مات. وروي أنهم عدوا عشرين يومًا بلياليها فجعلوها أربعين ثم أحدثوا ما أحدثوا. وقال الكلبي، أعجلتم عبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم. وقال عطاء: أعجلتم سخط ربكم. وفي الكشاف: يقال عجل عن الأمر إذا تركه غير تام ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غيره ويضمن معنى سبق فيعدى تعديته فيقال: عجلت الأمر ومعنى: أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به {وألقى الألواح} التي فيها التوراة لما لحقه من الدهش والضجر غضبًا لله. عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: «يرحم الله أخي موسى ما الخبر كالمعاينة» لقد أخبره الله تعالى بفتنة قومه فعرف أن ما أخبره به حق وأنه مع ذلك متمسك بما في يده. وروي أن التوراة كانت سبعة أسباع فلما ألقى الألواح تكسرت فرفع منها ستة أسباعها وبقي سبع واحد، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء وفيما بقي الهدى والرحمة.قال في التفسير الكبير: إلقاء الألواح ثابت بالقرآن، فأما إلقاؤها بحيث تكسرت فلا وإنه جراءة عظيمة ومثله لا يليق بالأنبياء. وأقول: الجراءة تحصل بنفس الإلقاء لا بالتكسر الذي لا يتعلق باختياره فكل ما يجعل عذرًا عن نفس الإلقاء يصح أن يجعل عذرًا عن التكسر {وأخذ برأس أخيه} أي بشعر رأسه يجره إليه بذؤابته. واعلم أن موسى عليه السلام كان في نفسه حديدًا شديد الغضب وكان هارون ألين منه جانبًا ولذلك كان أحبّ إلى بني إسرائيل من موسى. وقد استتبع غضبه أمرين: أحدهما إلقاء الألواح والآخر أخذ رأس أخيه جار إليه، فزعم مثبتو عصمة الأنبياء أنه جر برأس أخيه إلى نفسه ليسارّه ويستكشف منه كيفية الواقعة لا لأجل الإهانة والاستخفاف، ثم إن هارون خاف أن يتوهم جهال بني إسرائيل أن موسى فعل ما فعل به إهانة {فقال يا ابن أم} من كسرها فعلى طرح ياء المتكلم، ومن فتحها فتشبيهًا بخمسة عشر لكثرة الاستعمال أو على الألف المبدلة من ياء الإضافة. وإنما أضافه إلى الأم إشارة إلى أن أمهما واحدة على ما روي أنه كان أخاه لأمه ليكون أدعى إلى العطف والرقة لأنها كانت مؤمنة فافتخر. بنسبها ولأنها هي التي تحملت فيه الشدائد فذكره حقها {إن القوم استضعفوني} استذلوني وقهروني ولم يبالوا بي لقلة أنصاري {وكادوا يقتلونني} حين منعتهم عبادة العجل ونهيتهم عنها {فلا تشمت بي الأعداء} العابدي العجل فإنهم يحملون هذا لذي تفعل بي على الإهانة لا على الإكرام {ولا تجعلني مع القوم الظالمين} في اشتراك العقوبة والإذلال، ولا تعتقد أني واحد منهم.ولا يخفى ما في بعض هذا التفسير من التعسف والتكلف، والحق أن هذا القدر من الحدة الناشئة من عصبية الدين لا يقدح في العصمة وغايته أن يكون من قبيل ترك الأولى فلذلك {قال} موسى {رب اغفر لي} ما أقدمت عليه من الحدة قبل جلية الحال {ولأخي} أن عساه فرّط في شأن الخلافة ثم أخبر عن مجازاة القوم فقال: {إن الذين اتخذوا العجل} إلهًا {سينالهم غضب من ربهم وذلة} كلاهما في الحياة الدنيا. فالغضب ما أمروا به من قتل أنفسهم والذلة خروجهم من ديارهم وذل الغربة لا يخفى. واعترض بأن قوله: {سينالهم} للاستقبال وفي وقت نزول الآية كان القتل واقعًا. وأجيب بأن هذا الكلام حكاية عما أخبر الله تعالى موسى به في الميقات من افتتان قومه وكان سابقًا على وقوعهم في الغضب والذلة. قلت: ويجوز أن يكون الآيتان من تتمة قول موسى إلا أن قوله: {وكذلك نجزي المفترين} ينبو عن ذلك إلا أن يحمل على الاعتراض. ولما في هذا التفسير من التكلف ذهب به بعض المفسرين إلى أن المضاف في الآية محذوف والتقدير: إن الذين اتخذ آباؤهم العجل يعني الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم سينالهم غضب من ربهم في الآخرة وذلة في الحياة الدنيا بضرب الجزية، أو غضب وذلة كلاهما في الدنيا بالقتل والجلاء كما نال بني قريظة والنضير، أو التقدير: إن الذين اتخذا العجل سينال أولادهم {وكذلك نجزي المفترين} أي كل مفتر في دين الله فجزاؤه الغضب والذلة. قال مالك بن أنس: ما من مبتدع إلا وتجد فوق رأسه ذلة ثم قرأ هذه الآية: {والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا} ظاهر الآية يدل على أن التوبة شرط العفو وأنه لابد مع التوبة من تجديد الإيمان فما أصعب شأن المذنبين، ولكن عموم لفظ السيئات يدل على أن من أتى بجميع المعاصي ثم تاب فإنه الله يغفرها له فما أحسن حال التائبين {لغفور} ستور عليهم محَّاء لما صدر منهم {رحيم} منعم عليهم بالجنة. وفيه أن الذنوب وإن جلت وعظمت فإن عفوه وكرمه أعظم وأجل.ولما بين ما كان من موسى مع الغضب بين ما كان منه بعد الغضب فقال: {ولما سكت عن موسى الغضب} قال علماء البيان: إنه خرج على قانون الاستعارة فكأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول ألق الألواح وغير ذلك، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء. وعن عكرمة أن المعنى سكت موسى عن الغضب فقلب كما يقال: أدخلت الخف في رجل وإنما أدخل الرجل في الخف. وقيل: السكوت بمعنى السكون وقد قرئ به.{أخذ الألواح} التي ألقاها منبهًا على زوال غضبه لأنه أوكد ما تقدم من إمارات الغضب {وفي نسختها} فعلة بمعنى مفعول كالخطبة من النسخ والكتب أي في مكتوبها من اللوح المحفوظ سواء قلنا إن الألواح لم تتكسر وأخذها موسى بأعيانها بعد ما ألقاها أو قلنا إنها تكسرت وأخذ ما بقي منها، وقيل: النسخ بمعنى الإزالة لما روي عن ابن عباس أنه لما ألقى الألواح تكسرت فصام أربعين يومًا فأعاد الله تعالى الألواح وفيها غير ما في الأولى {هدى} من الضلال {ورحمة} من العذاب {للذين هم لربهم يرهبون} أدخل اللام في المفعول لتقدمه فإن تأخير الفعل يكسبه ضعفًا ونظيره {للرؤيا تعبرون} [يوسف: 43] وقولك: لزيد ضربت ويجوز أن يكون المراد للذين هم لأجل ربهم يرهبون لا رياء وسمعة، وجوّز بعضهم أن تكون اللام صلة نحو ردف لكم. اهـ.
.قال الشوكاني في الآيات السابقة: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)}.الغضب ما نزل بهم من العقوبة في الدنيا بقتل أنفسهم، وما سينزل بهم في الآخرة من العذاب، والذلة هي التي ضربها الله عليهم بقوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة} [البقرة: 61].وقيل: هي إخراجهم من ديارهم.وقيل: هي الجزية، وفيه نظر لأنها لم تؤخذ منهم، وإنما أخذت من ذراريَهم.والأولى أن يقيد الغضب والذلة بالدنيا، لقوله: {فِي الحياة الدنيا} وأن ذلك مختص بالمتخذين للعجل إلهًا، لا لمن بعدهم من ذراريهم.ومجرّد ما أمروا به من قتل أنفسهم هو غضب من الله عليهم، وبه يصيرون أذلاء.وكذلك خروجهم من ديارهم هو من غضب الله عليهم، وبه يصبرون أذلاء.
|